*الصورة ل J. Vignet-Zunz المصدر
يُنْظَرُ إلى التراث الشعبي الثقافي والفني كوعاءٍ جامعٍ لمختلف أشكال الإبداع الإنساني، المادي منه واللاَّمادي، الروحي والديني، الثقافي والفني، بل وحتى أنماط السلوك والعادات والمعاملات اليومية. فهو يشمل طَيْفًا واسعًا من الممارسات التي تَمْتَدُّ من التقاليد والعادات إلى الغناء والرقص والموسيقى والطبخ واللباس والألعاب الشعبية للكبار والصغار على حد سواء.
ويعتبر التراث خزّانًا غنيًا بالدلالات النفسية والفكرية والتاريخية والحضارية، حيث يُجَسّد عبقرية الذاكرة الجماعية في قدرتها على الابتكار والتجديد، والتفاعل مع محيطها الزمني والاجتماعي. ومن خلال تراكمه المادي والرمزي، يَغْدُو التراث مصدرًا لبناء هوية محلية خاصة، ترتكز على مقومات ثقافية أصيلة، تُسْهِم في صياغة لحظات تاريخية متجددة.
وقد أكدت المواثيق الدولية، خاصة الصادرة عن اليونسكو، أن هذا المخزون الثقافي في مظاهره المادية واللاَّمادية، يشكل عنصرًا أساسيًا لصَوْن الذاكرة الجماعية من الفراغ والاغتراب. فهو يُجَنّبُ المجتمعات الوقوع في الانشطار والانْفِصَام، ويمنحها قوةً للتفاعل والإبداع العفوي الأصيل، عِوَض الارْتِهَان لمنطق الاستهلاك والاغْتِرَاب الثقافي.
إن التراث الشعبي، في بيئته الطبيعية والمجتمعية، يُعبِّر عن دينامية متواصلة تنتج مجتمعًا قائمًا بذاته، تَحْرُسُه مؤسسات اجتماعية تصون كرامة الفرد، وتؤسس لمعنى الانتماء. ومن هذا المنطلق، يصبح التراث الشفهي والمكتوب معًا مجالاً غنيًا لدراسة الروابط العميقة بين المجتمع وذاكرته، تلك الذاكرة التي تُرسّخ قيمًا فكرية ودينية وأدبية وروحية، وتمنح المجتمع هوية متأصلة. وهنا تتضح العلاقة الجدلية بين التراث والقانون، حيث يبقى العُرْفُ في كثير من الأحيان إطارًا مكملاً ومحدّدًا للقانون المكتوب.
علاقة التراث بالهوية وجدلية الذات والآخر:
لا يمكن الفصل بين الذاكرة والتراث، فهما يشكلان معًا قاعدة معرفية وتاريخية، ويمثلان مدرسة فكرية ومرجعية ثقافية للأجيال المتعاقبة. فالتراث والذاكرة يرسخان وَعْيَ الإنسان بذاته الفكرية، ويَمْنَحَانِه عناصر هويته الثقافية والروحية. ومن ثم، يصْبِحُ التراث موجهًا أساسيًا لكل المقاربات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية في المجتمع.
إن أي مشروع مجتمعي يتجاهل المحددات التراثية التي تؤسس لمفهوم الهوية في بعدها الأنثروبولوجي، يظل خارج إطار التاريخ. لذلك، اعتبر عدد من المفكرين أن الدخول إلى المستقبل لا يتم إلا من بوابة الماضي، وأن استلهام التراث شرط لبناء وجود حضاري متجدد. فالتراث الشعبي المحلي، يمنح الشرعية اللازمة لتشييد أفق حضاري جديد يتميز بخصوصيات مكانية وزمنية ورمزية، تُغْنِي الذاكرة وتُطَوِّرُهَا.
إن تقدير التراث الثقافي المحلي يعني في العمق تقدير مبادئ الهوية نفسها، والتي تُعتبر فعلًا من أفعال التفكير المرتبط بالبيئة والسياق التاريخي، وبناءً على ذلك فالتراث ليس كيانًا جامدًا أو ذِكْرى من الماضي، بل هو عملية تاريخية متحركة ودائمة التَّجَدُّد. فهو يربط الماضي بالحاضر، ويُؤَسِّسُ لجدلية التغيير وضبط توازنات الصراع الاجتماعي.
لكن التحدي الأكبر يظل في التوفيق بين التراث والمعاصرة. فالتراث، رغم تعدد تأويلاته، يظل قاعدة للحداثة والديمقراطية والتكنولوجيا، شرط أن يتم تحيينه وتطويره بما يتلاءم مع القيم الجديدة. ومن هنا يبرز سؤال محوري: كيف يمكن الانفتاح على العالم من خلال قيمٍ تراثية أصيلة، دون الانجراف نحو قيمِ الرأسمالية الاستهلاكية؟ الجواب يكمن في التخلص من الرؤية التقليدانية التي تحصر التراث في قالب جامد لا يواكب العصر، وفي الوقت نفسه مواجهة القراءات المُتَسِّرِّعة التي تفصل بين التراث كقيمة إنسانية، وبين نزعات السيطرة الإيديولوجية التي تسعى إلى نشر ثقافة أحادية مهيمنة.
إن مواجهة هذا التحدي ليست سهلة، لكنها ضرورية لحماية كيان الشعوب، خاصة الفقيرة منها مِنَ الاغتراب الثقافي والهَوِّيَّاتِي. فالتمسك بالموروث المحلي، مادياً ورمزياً، هو الخطوة الأولى للحفاظ على القيم والذاكرة الجماعية. كما أن محاربة الأمية والفقر، وتقوية البنيات الاقتصادية والاجتماعية، هي شروط أساسية لتمكين الفرد من إدراك أهمية المكوّن التراثي في حياته اليومية، واستيعاب دوره في تحقيق رفاهيته.
موقف المثقفين من التراث والحداثة:
ظل موضوع التراث مَثَارَ جدلٍ واسعٍ بين المفكرين والمثقفين، إذْ اختلفت قراءاتهم باختلاف خلفياتهم الفكرية والإيديولوجية. فقد اعتبر بعضهم العودة إلى التراث ضَرْبًا من الرجعية، بينما رأى آخرون فيها خطوة تقدمية ضرورية، في حين ذهب فريق ثالث إلى التعامل معه من منظور سلفي صارم باعتباره مقدسًا لا يقبل النقد أو التأويل، وبين من رأى أنه مجال مفتوح للدراسة النقدية العلمية.
وقد قدّم عدد من المفكرين العرب رؤى تقدمية في قراءتهم للتراث، مثل د طيب تيزيني، وصادق جلال العظم، وعبد الله العروي، وحسين مروة... فقد اعتبر هؤلاء التراث عنصرًا تاريخيًا حيًا، يمكن من خلاله ربط الحاضر بالماضي لبناء المستقبل. وركزوا على دور "المثقف العضوي" في استثمار التراث باعتباره أرضية خصبة للتطور والإبداع، بدل أن يتحول إلى عبءٍ أو قيْدٍ يحد من الانفتاح.
ويقوم هذا الطرح على أن الارتباط بالتراث ليس مجرد حنين للماضي، بل هو وسيلة لتجنب النسيان والانقطاع عن الجذور. فالموروث الشعبي يضم تجارب إنسانية غنية من أساطير وشعر وحِكم وعلوم ... يمكن أن تشكل منطلقًا لتطوير مختلف مجالات الحياة الفكرية والثقافية والفنية، سواء كانت مادية أو رمزية.
لكن الإشْكَال يَكْمُن في الفَجْوة بين هذه القراءات الفكرية الطموحة والسياسات الرسمية، التي غالبًا ما تُهْمِل التراث وتُخْضِعُهُ لمنطق السوق والربح السياسي، دون اعتبارٍ لقيمته الرمزية والحضارية. فبدل أن يصبح التراث وسيلة للنهوض الثقافي، يُخْتَزَلُ في التسويق والفلكلور، مما يؤدي إلى تهميشه وتشويهه.
إن تجاهل التراث في السياسات العمومية لا يُفرغ الذاكرة الجماعية من مضمونها فحسب، بل يفتح الباب أمام العولمة بما تحمله من مخاطر الانسلاخ الثقافي ... وهكذا يظهر جِيل جديد مُعَرَّض للنسيان وفاقد للصلة بجذوره التاريخية، بسبب قوة الإعلام والدعاية التي تُرَوِّجُ لثقافة الاستهلاك بدل ثقافة الانتماء.
فقد كشفت تجارب التنمية في بلدان فقيرة، (مثل المغرب) أن استيراد نماذج جاهزة من الخارج، كما يفرضها البنك الدولي مثلًا، لم يُؤدِّ إلى نتائج مثمرة، لأنها تجاهلت الخصوصيات الثقافية المحلية. فالمشاريع التي لا تُدْمِج البُعْد التراثي في التعليم أو السياسات الاجتماعية تبقى مبتورة، وغير قادرة على إحداث التغيير المنشود.
إن التراث، في جوهره، ليس مجرد طقوس فولكلورية أو عادات ماضوية، بل هو حِسٌ شعبي أصيل ومعرفة متجذرة، تشكل جزءًا من وجدان الشعب والجماعات. لذلك فإن التعامل معه بالتقديس تارة وبالتهميش والإهمال هو تفريط في ركيزة أساسية من ركائز الهوية، وإضعاف للذاكرة الجماعية التي تُعتبر الأساس لكل مشروع نهضوي حقيقي.
رؤية اليونسكو للتراث وأبعاده الحقوقية:
عقب الحرب العالمية الثانية وما خلّفته من دمار مَسَّ معالم الحضارات وموروثات الشعوب، سارعت المنظمات الدولية، وفي مقدمتها اليونسكو، إلى دق ناقوس الخطر بشأن التهديدات المحدقة بالتراث الإنساني. فقد رأت أن التراث الثقافي ليس مجرد آثار أو طقوس، بل هو عماد الهوية وشرط أساسي لإرساء السلام بين الأمم. فأصدرت اليونسكو سلسلة من البروتوكولات والاتفاقيات التي تُلزم الدول بحماية تراثها، معتبرة أن تدمير المعالم الأثرية أو محو الثقافات الشفوية يُخِلّ بالتوازن النفسي والاجتماعي، ويزرع بذور الكراهية والانتقام. ومن هنا جاء التركيز على تعزيز أشكال التعبير الثقافي، سواء كانت شفوية أو مكتوبة، مادية أو روحية، فردية أو جماعية.
وفي عام 1972، اعتمدت المنظمة اتفاقية دولية هامة لحماية التراث الثقافي والطبيعي (مثل وُجُوب حماية مقبرة دواري الرويضة والرقيعة من تدمير غابتها التاريخية باعتبارها تراثا وذاكرة جماعية محلية، إضافة إلى فائدتها البيئية والصحية)، والتي أرست مبادئ تجعل من حماية التراث جزءًا من حقوق الإنسان. كما أكدت أن الثقافة لا تنفصل عن التنمية المستدامة، وأن صون التراث شرط لإقامة مجتمع متوازن ونشيط ثقافيًا. فالتراث بالنسبة إليها مرآة الشعوب، ومن دونه تفقد الأمم ذاكرتها وتصبح عرضة لهيمنة ثقافة الآخر.
لقد شددت اليونسكو على أن أي اعْتِدَاء على التراث الثقافي يُعتبر جريمة منظمة يعاقب عليها القانون الدولي، وهو ما يعكس الوعي المتزايد بأن التراث إرث جماعي للإنسانية جمعاء. ولم تقتصر الجهود على الحماية المادية فحسب، بل شجعت أيضًا على دعم الإبداع المعاصر باعتباره امتدادًا للموروث التاريخي، مؤكدة أن التراث لا ينبغي أن يُختزل في المتاحف أو يُعامل كشيء جامد، بل يجب أن يعيش ويتطور مع المجتمعات.
غير أن التحدي يكمن في غياب الإرادة السياسية لدى كثير من الدول، التي تكتفي بالتوقيع على المعاهدات دون تفعيلها فعليًا. ففي السياق المغربي مثلًا، تتعرض العديد من المظاهر الثقافية للتلف والإهمال بسبب ضعف الدعم المادي واللوجستيكي، رغم أهميتها الكبرى في صون الذاكرة الجماعية.
وعليه، فإن رؤية اليونسكو للتراث تنطلق من كونه ركيزة للسلام وحقوق الإنسان، وأداة للتنمية المستدامة، وليست مجرد زخرفة ثقافية. فهو مجال يتيح للشعوب أن تعبر عن ذاتها وتغني الحضارة الإنسانية بتنوعها. ومن ثم، يصبح الحفاظ على التراث ليس مسؤولية الدول وحدها، بل أيضًا مسؤولية المجتمع المدني والقطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية، التي تستطيع عبر التعاون والتحسيس أن تساهم في حمايته وتطويره.
جدلية الثقافة والتنمية:
أصبحت العلاقة بين الثقافة والتنمية المستدامة من أكثر القضايا إلحاحًا في العقود الأخيرة. فقد كان يُنظر إلى الثقافة في الماضي على أنها نشاط ترفيهي أو مجرد إنتاج أدبي محدود الأثر، لكن الدراسات الحديثة في العلوم الإنسانية والاقتصادية أثبتت أن الثقافة رافعة استراتيجية للتنمية، وأنها تشكل رأس مال رمزي يتحول بدوره إلى رأس مال اقتصادي واجتماعي.
فالتراث الثقافي ليس مكوّنًا ثانويًا، بل هو محرك أساسي للتطور الصناعي والتجاري والزراعي، لأنه يشمل جملة من الأفكار والقيم والممارسات التي تُلهم الإبداع والابتكار. ومن هنا يتبين أن أي نهضة اقتصادية لا يمكن أن تنجح بمعزل عن ثقافة متطورة تحتضن التنوع وتعزز الإبداع.
إن الثقافة في جوهرها فعل تنموي، لأنها تطور الذات الهوياتية وتغذي حس الابتكار والاجتهاد. وكلما توفرت لها شروط الحرية والديمقراطية، ازدادت قدرتها على إنتاج قيم جديدة تسهم في تنمية المجتمع. لذلك، فليست الثقافة محصورة في المعتقدات والعادات والطقوس، بل لها خلفيات علمية ومعرفية تجعلها قادرة على المساهمة في بناء اقتصاد وطني متطور.
وقد أثبتت التجارب العالمية أن تطور الاقتصادات الكبرى ارتبط أساسًا بالثورات الثقافية. فالغرب لم يكن لينهض لولا الثورة الفكرية التي كسرت قيود العصور الوسطى وأزاحت هيمنة الكنيسة. والصين مثال آخر على دور الثقافة في تحقيق التنمية، إذ جعلت من موروثها الفكري والرمزي قوة دفع حضارية هائلة. واليابان بدورها برهنت أن الاقتصاد المزدهر لا ينفصل عن الخصوصية الثقافية التي تأسست على دمقرطة الثقافة وتحويلها إلى رافعة للتقدم.
وهذا ما أكده المؤتمر الدولي للسياسات الثقافية المنعقد في مكسيكو سنة 1982، حيث اعتبر أن التراث الثقافي إنتاج فكري يساهم في التغييرات الاجتماعية، ويؤسس لشبكات علائقية داخل المجتمع تفتح أمامه آفاق التنمية. فالثقافة ليست مجرد عنصر جمالي أو فولكلوري، بل هي البنية الفكرية التي ألهمت الإنسان اختراع الأدوات والآلات، من المحراث إلى البواخر والسيارات، وكلها إبداعات ثقافية قبل أن تكون اقتصادية.
لذلك، فإن إلحاق الثقافة بمسار التنمية أمر ممكن وضروري، شرط إخضاع التراث لمعايير البحث العلمي والاستثمار في طاقاته الإبداعية. فالتنمية التي تنبني على احترام الثقافات المحلية وتحريرها من القيود الإيديولوجية تكون أكثر توازنًا وعدلاً، لأنها تحصّن الشعوب من الاستلاب وتمنحها القدرة على مقاومة آثار العولمة.
وفي هذا السياق، يظهر جليًا أن أي سياسة تنموية تُقصي الثقافة والتراث محكوم عليها بالفشل. فالهجرة، والحروب، والقمع الإيديولوجي، وتهميش اللغات المحلية، كلها عوامل تُعطّل التنمية لأنها تقطع الأفراد عن جذورهم الرمزية. بينما دمقرطة الدول وفتح المجال أمام الإبداع الثقافي يخلق اقتصادًا أكثر ديناميكية، ومجتمعًا أكثر انسجامًا وقوة.